إبراهيم العجمي يكتب: ”بلبن” والثقة الغائبة من أجل إقتصاد وطنى مستدام

في البداية، لا بد من الإشادة بقرارات السيد الرئيس الأخيرة بشأن خلق مناخ استثماري تنافسي. ورغم تأخر تلك الخطوات مقارنة بما نشهده من تسابق محموم بين أسواق صاعدة وجاذبة في المنطقة، إلا أن ما تم يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح. غير أن التحدي الحقيقي يكمن في النظر إلى مستقبل الاستثمار بنظرة أكثر شمولية، اعتمادًا على ما بين أيدينا من أرقام ومؤشرات.
ولعل ما استوقفني مؤخرًا هو تعليق شعبي عبقري على مواقع التواصل الاجتماعي حول خبر إغلاق فروع سلسلة "بلبن"، حيث قال أحدهم: "إحنا مش بننفي وجود البكتيريا، إحنا بنسأل ليه روحتم تدوروا عليها هناك؟"
تعليق كاشف، يلخص العقلية الشعبية ونظرتها للدولة ممثلة في أجهزتها، ويعكس أزمة ثقة متجذرة بين المجتمع ومؤسساته.
إذا عدنا قليلًا إلى آخر تقارير البنك الدولي لأداء الأعمال (Doing Business) قبل أن يتوقف بفعل الجائحة، سنجد أن مصر جاءت في المركز 114 من أصل 190 دولة. التقرير كان يرصد مدى سهولة ممارسة الأعمال، وقد حققت مصر فيه مراكز متقدمة نسبيًا في بعض المؤشرات، مثل حماية المستثمرين الأقلية (المركز 57) وسهولة الحصول على الائتمان (المركز 67).
لكن الصورة لم تكن وردية تمامًا، إذ كانت مصر في ذيل الترتيب في مؤشرات أخرى مثل التجارة عبر الحدود (171 من 180)، وهو ما أقر به رئيس مصلحة الجمارك وقتها حين قال إن مصر ضمن أسوأ عشر إدارات جمركية في العالم.
كذلك سجلت مصر مراكز متأخرة في مؤشرات تنفيذ العقود (166)، ودفع الضرائب (156)، وتسجيل الملكية (130).
وكلها مؤشرات تعكس تعقيدات إدارية وبيقراطية مزمنة، ترتبط بأشخاص وكيانات لا تزال تعيش بعقلية "مدام عفاف في الدور السابع" و"كل سنة وأنت طيب يا باشا".
في تقرير دافوس للتنافسية – الذي توقف هو الآخر بسبب كورونا – جاءت مصر في المركز 93 من أصل 141 دولة، ورغم تحقيقنا ترتيبًا جيدًا في حجم السوق (المركز 23 عالميًا) والبنية التحتية (المركز 52)، فإن أسوأ المؤشرات كانت كفاءة سوق العمل (126) والاستقرار الاقتصادي (135).
ووفقًا للتقرير، فإن الاقتصاد المصري شديد التعرض للصدمات، ويتأثر بسهولة شديدة بما يحدث حوله، مما يؤثر سلبًا على السوق وحركة رؤوس الأموال.
وفي نفس التقرير، جاء التعليم في مصر في المركز 99 من أصل 141 دولة – رقم يعكس فجوة كبيرة لا يمكن تجاوزها بمشاريع تطوير شكلية أو خطط مؤقتة في هذا الملف.
لكن المؤشر الأهم والأخطر من وجهة نظري كان ما يتعلق بالثقة داخل المجتمع؛ الثقة بين الأفراد، والثقة في المؤسسات، والعمل التطوعي، والامتثال للقانون. جاءت مصر في هذا المؤشر في المركز 137 من أصل 141، وهو أسوأ مركز لها على الإطلاق، حتى مقارنة بمؤشر الاستقرار الاقتصادي الكلي الذي سجلنا فيه المركز 135.
الخلاصة أن أزمة الاقتصاد في جوهرها ليست فقط أزمة إجراءات، بل أزمة ثقة.
والثقة، كما نعلم، لا تُمنح... بل تُكتسب، وإذا كنا جادين في بناء اقتصاد وطني مستدام، فعلينا أن نبدأ أولًا ببناء الثقة حقيقه.
وهذا لا يأتي إلا من خلال بيئة تشريعية شفافة، وإدارة رشيدة، قادر على إقناع المواطن والمستثمر أن هناك مستقبلًا يمكن الوثوق فيه، وأن العدل هو الأمل.