الموجز اليوم

مصطفى صلاح يكتب: الدراما المصرية..حين يسقط الحارس الأمين!

لم يكن قطاع الإنتاج في التلفزيون المصري مجرد جهة إنتاجية عابرة، بل كان القلب النابض لصناعة الدراما المصرية، الحارس الأمين الذي صان الهوية الفنية، والمظلة التي احتضنت روائع الأعمال التي تربينا عليها. حين سقط هذا القطاع، سقط معه جزء أصيل من روح الدراما المصرية، وتسلل الانحدار شيئًا فشيئًا، حتى وجدنا أنفسنا أمام واقع درامي هزيل، فاقد للهوية، خاضع لقوانين السوق بدلًا من معايير الفن، وكأننا بتنا غرباء عن الدراما التي كانت يومًا صوتًا للحقيقة، ومرايا تعكس ملامح المجتمع المصري بكل ما فيه من نبض وألم وأمل.

كان قطاع الإنتاج هو الجدار الأخير الذي وقف في وجه التسليع الجائر للدراما، فحافظ على جودة الأعمال وعمق محتواها، وكان المنصة التي أطلقت منها روائع مثل ليالي الحلمية، زيزينيا، المال والبنون، أرابيسك، أم كلثوم، وغيرها من الأعمال التي لم تكن مجرد قصص تُروى، بل وثائق اجتماعية وثقافية صنعت الوعي وأثرت في أجيال متعاقبة. لكن بعد انهيار القطاع، ومع هيمنة شركات خاصة لا هدف لها سوى الربح السريع، تغيرت ملامح الدراما بشكل مخيف، وتحولت إلى سوق استهلاكي، حيث الأولوية للمشاهدات السريعة، وللإعلانات التي تحكمت في كل شيء، حتى في كتابة السيناريو!

لم يعد هناك ذلك التنوع الذي اعتدناه، غابت الدراما الاجتماعية العميقة، لم نعد نرى أعمالًا تناقش القضايا الوطنية والمجتمعية بوعي ورؤية، كما كانت تفعل الدراما المصرية في عز مجدها. لم يعد هناك اهتمام بالكتابة الجيدة، بل صرنا أمام نصوص متكررة، تعتمد على الإثارة الرخيصة والتشويق الزائف، وبدلًا من أن نرى دراما تعبر عن المصريين، أصبحنا نرى أعمالًا مستوردة في روحها، غريبة عن بيئتنا، تروج لنمط حياة لا يمت للشارع المصري بصلة.

مدنية الإنتاج الإعلامي، التي كانت قلعة الدراما المصرية، والتي احتضنت أضخم الأعمال وأعظم المخرجين، أُهملت حتى أصبحت أشبه بذكرى باهتة من الماضي. كانت هذه المدينة مصنعًا للإبداع، حيث الكاميرات تدور في كل مكان، والممثلون يمرون من موقع تصوير إلى آخر، في سباق مع الزمن لتقديم فن يحمل قيمة ورسالة. واليوم، حين تمر بجدرانها، تشعر وكأنها مقبرة للأحلام التي لم تكتمل، وكأنها شاهد على زمن ولى ولن يعود.

لقد فقدنا شيئًا جوهريًا، ليس مجرد إنتاج درامي، بل منظومة كاملة كانت تعمل وفق معايير مهنية صارمة، تضع الفن قبل الربح، والقيمة قبل العائد. وحين تركنا هذا الكنز يضيع، وجدنا أنفسنا أسرى لأعمال سطحية، تستنسخ نفسها عامًا بعد عام، بلا هوية، بلا روح، بلا أثر. أصبح النجم هو محور العمل، لا القصة، وصار السيناريو مجرد أداة لتلميع الأبطال، لا لبناء حبكة متماسكة تحمل فكرة ورسالة.

إن الدراما المصرية ليست مجرد محتوى ترفيهي، بل هي ذاكرة الأمة، وهي القوة الناعمة التي أثرت في الوطن العربي بأسره، وكانت في يوم من الأيام المرجع الأول لكل من أراد أن يرى الواقع المصري بكل تجلياته. والآن، مع هذا الانحدار المؤلم، لا بد من وقفة حقيقية، لا بد من العودة إلى القطاع العام، إلى الإنتاج الوطني، إلى المدينة التي كانت حلم كل فنان.

لقد آن الأوان لإعادة إحياء قطاع الإنتاج، ليعود الحارس الأمين على الدراما المصرية، ولتعود الدولة إلى لعب دورها في إنتاج أعمال تحمل رسالة، تعيد تشكيل الوعي، وتستعيد الهيبة التي فقدناها في زمن الحسابات التجارية البحتة. إن عودة قطاع الإنتاج ليست مجرد مطلب فني، بل ضرورة ثقافية، فالأمم تُعرف بفنها، وإذا ضاع الفن، ضاع جزء من روحها.

الدراما ليست مجرد صورة تُعرض على شاشة، بل هي ضمير المجتمع، ومن دون هذا الضمير، سنبقى أسرى لأعمال بلا معنى، وسنخسر تراثًا لا يقدر بثمن. فهل من عودة قبل أن يصبح هذا السقوط نهائيًا؟

موضوعات متعلقة