الموجز اليوم

ضباط المراقبة الجوية..جنود مجهولة فى سماء الأمن الجوي المصري

وزير الطيران المدني
وزير الطيران المدني

في عمق المطارات المصرية الكبرى، بعيداً عن الضجيج وهرولة المسافرين خلف حقائبهم، ثمة غرف هادئة تنبض بالحياة والمسؤولية.
هنا، خلف جدران عازلة وأبواب موصدة، يجلس رجال ونساء في مواجهة شاشات ملونة ولوحات تحكم معقدة، أعينهم لا تغفل، وعقولهم لا تستريح.. هؤلاء هم ضباط المراقبة الجوية - جنود الأمن الجوي المصري.
لو قابلت أحدهم ذات مرة فى عمله لشاهدت وجهه مضاءً بنور الشاشات وعيناه لا تفارقان حركة النقاط المضيئة التي تمثل أرواحاً ودماءً تسبح في الفضاء.
ولو سألته: "ماذا تشعر وأنت تمسك بمصير آلاف البشر بين يديك كل يوم؟" لابتسم ابتسامة هادئة وأجاب:
"ندرك أننا نحمل أمانة ثقيلة، لكنها مسؤولية نفخر بها."

هذه المهنة المنسية في زحمة الحياة ليست مجرد وظيفة فنية يتقنها الخريج المتفوق، بل هي مزيج نادر من العلم والحكمة والقدرة على إتخاذ قرارات مصيرية في ثوانٍ معدودة.
هنا، قد تعني الثانية الواحدة الفرق بين كارثة و هبوط آمن، بين فقدان أرواح وعودة مسافرين إلى أحضان عائلاتهم.
في كل مرة تهبط فيها طائرة بسلام على أرض مصر المحروسة، يكون وراء هذا النجاح قلوب تخفق وعقول تفكر وأيادٍ تعمل في صمت، غير مطالبة بالتصفيق أو التقدير.
إنهم يعملون بعيداً عن الأضواء، لكنهم في الحقيقة يحرسون سماء الوطن وازدهاره الاقتصادي بكل جدارة واقتدار.

منذ فجر الطيران المدني في مصر، تطورت مهنة المراقبة الجوية جنبًا إلى جنب مع نمو هذا القطاع الحيوي.
فبعد أن كانت تعتمد على الاتصالات اللاسلكية البسيطة والملاحظة البصرية، أصبحت اليوم تستخدم أحدث التقنيات وأنظمة الرادار المتطورة التي ترسم صورة حية لحركة الطائرات في سماء البلاد الشاسعة.
هذه التكنولوجيا المتقدمة، رغم أهميتها، تظل مجرد أداة في يد العنصر البشري المدرب تدريبًا عاليًا، القادر على تحليل البيانات، وتوقع السيناريوهات المحتملة، والتواصل بفعالية مع الطيارين في كل لحظة.

"إن مسؤولية ضابط المراقبة الجوية عظيمة تفوق التصور"، يقول الكابتن/ حسن حلمي، خبير سلامة الطيران والمحاضر في أكاديمية الطيران المصرية. "هم ليسوا مجرد موظفين يوجهون الطائرات؛ بل هم خط الدفاع الأول ضد أي خطر محتمل في الجو. قراراتهم في ثوانٍ معدودة يمكن أن تحدث فرقًا بين رحلة آمنة و كارثة لا قدر الله."

تتطلب طبيعة العمل من مراقبي الحركة الجوية امتلاك مجموعة استثنائية من المهارات: يجب أن يكونوا قادرين على الحفاظ على تركيز حاد لساعات طويلة، ومعالجة كميات هائلة من المعلومات بشكل متزامن، واتخاذ قرارات سريعة ودقيقة حتى في ظل الظروف الأكثر تعقيدًا وإجهادًا.
بالإضافة إلى ذلك، فإن إتقان اللغة الإنجليزية للطيران (ICAO standard phraseology)
أمر بالغ الأهمية لضمان تواصل سلس وفعال مع الطيارين من مختلف الجنسيات.

"التدريب الذي يخضع له مراقب الحركة الجوية في مصر يعد من بين الأفضل في المنطقة"، يوضح الكابتن/ وليد فتحي - رئيس نوبة بالمنطقة المركزية. "نحن نتبع أحدث المعايير الدولية ونحرص على تأهيل كوادرنا بأعلى مستويات الكفاءة من خلال دورات تدريبية مكثفة ومحاكاة للسيناريوهات الواقعية الأكثر تحديًا."

لكن أهمية مهنة المراقبة الجوية في مصر تتجاوز حدود السلامة الجوية. فهي تلعب دورًا حيويًا في دعم النمو الاقتصادي وتسهيل حركة التجارة والسياحة.
من خلال إدارة تدفق الحركة الجوية بكفاءة، يساهم المراقبون في تقليل التأخيرات وتوفير الوقود لشركات الطيران، مما ينعكس إيجابًا على تكلفة السفر والشحن.
كما أن القدرة على التعامل مع الزيادة المطردة في عدد الرحلات الجوية، خاصة في المواسم السياحية والأعياد، تعد مؤشرًا على كفاءة هذا القطاع وقدرته على استيعاب النمو المستقبلي.

"مصر تعتبر مركزًا إقليميًا لحركة الطيران، وموقعها الاستراتيجي يجعل مجالها الجوي حيويًا للربط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب"، يشير الكابتن/ سيد عامر، مدير إدارة التقييم والأداء بوحدتى البرج والاقتراب. "كفاءة نظام المراقبة الجوية المصري تعزز من جاذبية البلاد كوجهة استثمارية وسياحية، وتساهم بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي."

وراء الأرقام والإحصائيات، تكمن قصص إنسانية تجسد المسؤولية والالتزام التي يتحلى بها مراقبو الحركة الجوية.
يحكى مراقب جوي مخضرم أمضى أكثر من عشرين عامًا في الخدمة، يومًا عصيبًا عندما واجه طيار صعوبات فنية في الهبوط بسبب شدة سوء الأحوال الجوية وقت ازدحام الحركة، ولم يكن يحمل الوقود الكافي للانتظار أو المناورة أكثر: "كان التوتر في الغرفة لا يُطاق. لكن بفضل التدريب والتواصل الهادئ والواضح، تمكنا من اعادة توجيه الطيار وإنزال الطائرة بسلام. في تلك اللحظة، شعرت بالفخر الحقيقي بمهنتنا."

مثل هذه القصص تتكرر يوميًا في غرف المراقبة الجوية في جميع أنحاء مصر، وغالبًا ما تبقى طي الكتمان.
يعمل هؤلاء المحترفون بتفانٍ وإخلاص بعيدًا عن الأضواء، مدركين تمامًا حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم. إنهم يمثلون خط الدفاع الصامت الذي يحافظ على سلامة سمائنا ويضمن انسيابية الحركة الجوية التي تدعم اقتصادنا وتسهل تواصلنا بالعالم.

"هناك، خلف شاشات خضراء متوهجة تبدو وكأنها من أفلام الخيال العلمي ، وأمام لوحات مفاتيح مليئة بالأزرار التي لا يفهمها أحد سواهم، يجلس أبطال مجهولون من النوع الذي لا يُكتب عنهم في الصحف ولا تتحدث عنهم الفضائيات: مراقبو الحركة الجوية."،

مهنتهم ليست وظيفة يتقاضون عليها راتباً شهرياً يُنفق على أقساط السيارة وفواتير المدارس.
إنها مزيج غريب من علم الفلك ودقة الجراح وبرودة أعصاب قائد فريق نزع المتفجرات، مع فارق أن المسؤولية هنا تتعلق بسلامة مئات المسافرين في الأجواء وليس بتفكيك عبوة واحدة.

قد لا يدري المسافر السعيد العائد من رحلته أنه مر في تلك اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت، ثم عاد منتشياً بالحياة بفضل قرار سريع اتخذه أحدهم في تلك الغرف المعتمة... والذي ببساطة لن يسمع منه كلمة "شكراً" أبداً.

لكن في المقابل، يواجه هؤلاء المسؤولون عن سلامة الأجواء المصرية تحديات جسيمة على الصعيدين الحياتي والمادي.

تشير تقارير غير رسمية ومناقشات داخل مجتمع الطيران إلى أن متوسط رواتب مراقبي الحركة الجوية في مصر يُعد من بين الأقل على مستوى العالم، حيث يقدر بأقل من 700 دولار شهريًا في كثير من الحالات.. هذه الأرقام كانت تضع علامات استفهام كبيرة حول تقدير الدولة لهذه الكفاءات الحيوية.

بالمقارنة، يحصل مراقبو الحركة الجوية في الولايات المتحدة على متوسط راتب سنوي يتراوح بين 80,000 و 180,000 دولار، أي ما يعادل متوسط شهري يقدر بـ 6,600 إلى 15,000 دولار. هذا يعني أن راتب المراقب الجوي الذي يقوم بنفس المهام والمسؤوليات في الولايات المتحدة قد يكون أكثر بـ 9 إلى 21 ضعفًا من راتبه في مصر. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تشهد نموًا هائلاً في قطاع الطيران، متوسط رواتب المراقبين الجويين 14000 دولار، مما يجعل راتب نظيرهم المصري أقل بما يقارب 20 ضعفًا.

وبالنظر إلى أعلى الرواتب التي يحصل عليها مراقبو الحركة الجوية في دول مثل أستراليا، كندا، المملكة المتحدة، أيرلندا، وسويسرا، والتي قد تتجاوز 200,000 دولار سنويًا، يصبح التفاوت أكثر وضوحًا.

السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: كيف يمكن للمراقب الجوي المصري، المثقل بالضغوط الحياتية المتزايدة ومتطلبات أسرته، أن يحافظ على تركيزه الذهني وقدرته العالية على إتخاذ القرارات الحاسمة ؟ كيف يمكن لعقله أن يظل صافيًا وهو مشوش بالظروف المعيشية الصعبة والمستحقات المالية المتراكمة؟

"من المستحيل فصل الأداء المهني عن الاستقرار النفسي والمادي للعامل، خاصة في مهنة حساسة مثل المراقبة الجوية"، يؤكد الدكتور طارق فهمي، أستاذ علم النفس الاجتماعي. "الضغوط المالية والمعيشية تخلق حالة من القلق والتوتر المستمر، مما يؤثر بشكل مباشر على التركيز والقدرة على اتخاذ القرارات الدقيقة وردود الفعل السريعة. في مجال الطيران، حتى جزء من الثانية يمكن أن يحدث فرقًا."

لا يمكن تجاهل المخاطر المحتملة التي قد تنجم عن هذه الظروف الصعبة. ففي مهنة تعتمد بشكل كلي على التركيز والانتباه لأدق التفاصيل، قد تؤدي حالة الإرهاق الذهني والتشويش الناتج عن الضغوط الحياتية إلى أخطاء غير مقصودة، لا قدر الله، قد تهدد سلامة الأجواء وحياة المسافرين.

لحسن الحظ، يبدو أن إدارة الطيران المدني المصرية قد استشعرت هذا التهديد الحقيقي الذي يمكن أن يؤثر على كفاءة وتركيز هؤلاء الكفاءات الوطنية.
فمنذ تولي معالي وزير الطيران المدني الطيار دكتور/ سامح الحفني،
والمهندس/ أيمن عرب رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للمطارات والملاحة الجوية،
وكذلك الكابتن/ إيهاب محيى الدين رئيس مجلس إدارة الشركة الوطنية لخدمات الملاحة الجوية،
والذي يُعد من حسن طالع المراقبة الجوية كونه ضابط مراقبة جوية سابقًا، ولديه خبرة طويلة فنية وإدارية حيث شغل إدارات عدة وترقى فى مناصبه حتى أٌسند اليه إدارة الشركة، مما يجعله على دراية تامة بقيمة هذه المهنة ومخاطرها وحساسيتها، فضلاً عن إدراكه للصعوبات والتحديات التي يواجهها ضباط المراقبة. ويُعتبر الكابتن محي الدين خير مثال على قدرة ضباط المراقبة على حسن الإدارة وتجاوز العقبات، حيث قاد الشركة في أوقات صعبة ودقيقة في تاريخ مصر الحديث بكفاءة واقتدار، فكلما اشتدت الأزمات، ازداد انضباط واحترافية أداء ضباط المراقبة الجوية تحت قيادته الرصينة.

وقد باشرت القيادات الحالية في إعادة هيكلة الرواتب الخاصة بالسادة المراقبين الجويين، مع وعود بزيادات قيمة من شأنها أن تساهم بشكل فعال في تحسين مستواهم المادي وإعانتهم على التغلب على بعض الصعوبات الحياتية التي كانت تؤثر سلبًا على تركيزهم في العمل.
هذه الخطوة تعكس رؤية واضحة واحترافية من معالي الوزير ورئيس الشركة القابضة ورئيس الشركة الوطنية للملاحة الجوية، وتقديرًا حقيقيًا للدور الحيوي الذي يلعبه المراقبون الجويون في منظومة الطيران المدني.

إن التماسهم لهذه الأزمة والسعي الحثيث لإيجاد حلول جذرية لها يدل على حسن تقديرهم للأمور وسعيهم الدؤوب للارتقاء بمجال الطيران المصري عن طريق معالجة المشكلات الأساسية أولًا بأول.

ومن حكمة الكابتن إيهاب محيى الدين أيضًا اختيار الكابتن/ أسامة عطا لرئاسة أهم قطاع في الملاحة الجوية، وهو قطاع المراقبة الجوية. وهو أيضًا ضابط مراقبة جوية خبر العمل في إدارات عدة داخل القطاع حتى تولى رئاسته، وهو يمثل حلقة وصل شفافة ودائمة الحضور للاستماع إلى ضباط المراقبة الجوية و مشاكلهم وطلباتهم وعرضها على الجهات المعنية ومتابعة حلها، كما يعتبر مصدرًا موثوقًا به لجموع المراقبين الجويين فيما يتعلق بأي قرارات إدارية تخصهم.

السؤال الذي يبقى مطروحًا هو:
هل ستستمر هذه المبادرات في مراعاة هذا الجانب الهام وتقليل الفوارق الكبيرة بين مرتبات المراقبين المصريين ونظرائهم على المستوى الدولي؟
خاصة وأن المراقب المصري يعمل في ظروف لا تقل صعوبة، بل قد تكون أكثر تعقيدًا في بعض الأحيان.
الموقع الاستراتيجي لمصر يجعل مجالها الجوي ملاذًا آمنًا للعديد من الطائرات في حالات التوتر والاضطرابات الإقليمية، مما قد يضاعف بشكل مفاجئ حجم الحركة الجوية المتوقعة أو المخطط لها، ويضع عبئًا إضافيًا على كاهل المراقب الجوي المصري.

في الختام، تظل مهنة المراقبة الجوية في مصر حجر الزاوية في سلامة وأمن وازدهار البلاد.
إن الجهود المبذولة حاليًا من قبل قيادات الطيران المدني لتقدير هذه الكفاءات وتحسين أوضاعهم المعيشية تمثل خطوة إيجابية هامة نحو تعزيز كفاءة هذا القطاع الحيوي.
ومع ذلك، يبقى الإستمرار في دعم هذه المبادرات وتوفير البيئة الداعمة التي تمكن المراقبين الجويين المصريين من أداء مهامهم بأعلى مستويات التركيز والكفاءة ضرورة حتمية لضمان استمرار مصر في لعب دورها المحوري كمركز إقليمي للطيران والحفاظ على سلامة سمائها وأمن مسافريها.